فصل: الصرفة وبطلانها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.سر الإعجاز:

32 - عجز العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ثابت ثبوتًا لا مجال للريب فيه، لا يرتاب فيه مؤمن ولا يجحده، ولا يماري فيه إلّا من يهمل عقله، ويسقط من حساب المفكرين، فعلى ذلك تواترت الأخبار، واتفقت الأمصار، لا فرق بين عدو وولي.
وإنَّه واضح من سياق الأخبار المتواترة أنَّ عجزهم اقترن بثلاثة أمور:
أولها: إعجابهم بعلوِّه عن أن يصل إليه أحد من البشر، ولم يحاول أحد من عقلاء المشركين أن يسفّ فيحاول المحاكاة إلّا من اتصف بالحماقة، فكانت حماقته ضعفين، أحدهما في محاولته، وثانيهما في نتائج هذه المحاولة؛ إذ جاء بلغو من القول لا يحتسب في عداد الكلام، فضلًا أن يناهد أبلغ كلام أنزله الله تعالى في البشر.
ولقد سببوا عجزهم بأنه يعلو ولا يعلى عليه، وأن له حلاوة، وعليه طلاوة، وأن أعلاه مثمر، وأسفله مغدق، وقد قال ذلك المغيرة في جمعهم، فما أنكروا عليه حكمه على القرآن الذي سمعه، ولكن أنكروا عليه أنه تحت تأثير هذا ترك جماعتهم، وكأنَّهم أقروه على الوصف الذي وصف به القرآن، ولكن أنكروا عليه الإيمان، وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم كما وصفهم القرآن الكريم.
ثانيها: إنَّهم كانوا مع شكرهم واستكراه نفوسهم لعدم الإقرار به ينجذبون إليه، ويريدون أن يسمعوه؛ استطابة لما فيه من لفظ ذي نغم يجذب، وعبارات مشرقة ونظم منفرد أجمل من سمط الآلئ، ولأنهم عرفوا ميلهم إلى استماعه، وأثره في نفوسهم، تواصوا ألا يسمعوه، وأن يلغوا عند سماعه، ولكن الذين تواصلوا ذلك التواصي ذهب كل واحد منهم منفردًا، ولكن الاستخفاء استعلن عندما التقوا جميعًا، ورأوا أنفسهم مجتمعين، وليس كل منهم منفردًا، وقد علموا أن التواصي على عدم الاستماع لا جدوى فيه، فتواصوا على الجحود والإنكار، فلم يكن تواصيهم على الحق، ولكن كان على الباطل.
ثالثها: إنَّ أشدهم عنادًا كان أقربهم إيمانًا، إذا قرئ القرآن صغى قلبه إلى الإيمان، وإلى الاستجابة لداعيه، فقد سمع أبو ذر الغفاري القرآن فآمن، وسمعه أخوه أنيس فأذعن لعلوِّ بلاغته عن مستوى البشر، وسمعه جبير بن مطعم فآمن، وقرأه عمر ابن الخطاب فانخلع قلبه من الشرك وطغيانه إلى الإيمان، وأن يكون فاروق الإسلام الذي كان إيمانه فارقًا بين الاستخفاء والإعلان، بين ظهور الحق وخفوته.
إن هذه الأمور التي اقترنت بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله دلَّت على أمرين بدهيين.
أولهما: إنَّ الأساس في عجزهم هو ما فيه من بلاغة ورنة قول، ونغمة بيان أدركوها بذوقهم البياني، وهم الذين يذوقون بأسماعهم، كما يذوق الإنسان الطعام بفمه، وأنه لم يكن عجزهم سلبيًّا، بل كان من كثيرين منهم إيجابيًّا يتبعه العمل ويقترن بالإيمان بأنه من عند الله تعالى، أي: أن وجه الإعجاز فيه أمر ذاتي فيه، وليس منعًا سلبيًّا.
الأمر الثاني: الذي تدل عليه هذه الأمور التي اقترنت بالعجز عن محاكاته، هو أن القرآن من بيانه العالي الذي لا يعالى، فيه من العلوم ما لم يكونوا يعرفونه، فيه الشرائع المحكمة التي تنظم العلاقات بين الآحاد الأقربين وغيرهم، فيه علم الميراث، وفيه علم الأحكام المختصة بالأسر، وفيه بيان خلق الإنسان من سلالة من طين، وفيه توجيه النظر إلى الكون، وما يشتمل عليه، وفيه من الحقائق ما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير، الذي خلق فسوى، والذي أحاط بكل شيء علمًا.
وفيه القصص والعبرة، وما كانوا يعلمون شيئًا من ذلك من قبله، فيه قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وقصة بناء الكعبة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127]، وفيه أنباء البلاد العربية التي تعلن آثار الأقوام عمَّا أنزله الله تعالى بهم، وفيه قصة موسى عليه السلام، وفيه قصة مريم، وترتيبها، وكيف اختصموا في كفالتها، وكيف يستخدمون القرعة بالسهام لتكون كفالتها لمن تكون السهام له: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44].
قرءوا ذلك وسمعوه، فكان العجز لهذه الأمور الذاتية، لا لأمور أخرى ليست من القرآن.

.الصرفة وبطلانها:

33 - عرف العرب أنهم عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن، وعلَّلوا عجزهم بما استرعاهم ما فيه من حلاوة اللفظ، وطلاوة المعنى والتركيب، وعمق ما اشتمل حتى إنه مغدق في جذوره، كلما تكشَّف القارئ عن عمقه رأى ما لا يصل إليه البشر، وكلما اتجه إلى أعلاه وجد ثمرًا شهيًّا.
هذا أمر ظاهر، ولكن الفلسفة التي تسيطر على عقول بعض الناس، ولا تكون فيها ثمرة ناضجة، قد يتجهون بها إلى كل ما يرونه بديئًا في التفكير، سواء أكان متصلًا بالحق المجرَّد أم لم يكن متصلًا، وسواء أكان متفقًا مع الإيمان والواقع أم لم يكن، بل إنَّ المتفلسفين ربما اتَّجهوا إلى الفكرة لا لأصالتها، ولكن لغرابتها، ولا لأنها لا بُدَّ منها لتحقيق الحق وإبطال الباطل، ولكن للترف العقلي، لا يفرقون بين أمر يتصل بالإيمان وأمر لا صلة له بالإيمان.
وإنَّ بعض المتفلسفين من علماء المسلمين اطَّلعوا على أقوال البراهمة في كتابهم (الفيدا) وهو الذي يشتمل على مجموعة من الأشعار، ليس في كلام الناس ما يماثلها في زعمهم، ويقول جمهور علمائهم: إن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثلها؛ لأنَّ براهما صرفهم عن أن يأتوا بمثلها.
يقول في ذلك أبو الريحان البيروني في كتابه (ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة). ما نصه:
(إن خاصتهم يقولون: إنَّ في مقدورهم أن يأتوا بأمثالها، ولكنهم ممنوعون من ذلك احترامًا لها).
ولم يبين البيروني وجه المنع، أهو منع تكليفي يسبقه الإيمان بهذه الكتب، وتكون دلائل وجوب الإيمان من نواحٍ أخرى، أم هو منع تكويني، بمعنى: إنَّ براهما صرفهم بمقتضى التكوين عن أن يأتوا بمثلها، والأخير هو الظاهر؛ لأنه هو الذي يتفق مع قول جمهور علمائهم، وما اشتهروا من أنَّ القول بالصرفة نبع في واديهم.
34 - وعندما دخلت الأفكار الهندية في عهد أبي جعفر المنصور، من والاه من حكام بني العباس، تلقَّف الذين يحبون كل وافد من الأفكار، ويركنون إلى الاستغراب في أقوالهم، فدفعتهم الفلسفة إلى أن يعتنقوا ذلك القول، ويطبقوه على القرآن، وإن كان لا ينطبق، فقال قائلهم: إن العرب إذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن ما كان عجزهم لأمر ذاتي من ألفاظه ومعانيه ونسجه ونظمه، بل كان لأن الله تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله.
وإنَّ رواج تلك الفكرة يؤدي إلى أمرين:
أولهما: إنَّ القرآن الكريم ليس في درجة من البلاغة والفصاحة تمنع محاكاته، وتعجز القدرة البشرية عن أن تأتي بمثله، فالعجز ليس من صفات القرآن الذاتية.
وثانيهما: الحكم بأنه ككلام الناس لا يزيد عليه شيء في بلاغته، أو في معانيه.
وإن مذهب الصرفة قد وجد من يقوله من علماء الفلسفة الكلامية وغيرها، بل وجد من يقوله من بين الذين أنكروا الرأي في الفقه، وهو مع جموده في الفقه، من أبلغ الكتاب والشعراء.
ولنترك الكلمة للباقلاني المتوفَّى سنة 403هـ في كتابه (إعجاز القرآن)، قال - رضى الله تبارك وتعالى عنه:
فإن قيل: فلم زعمتم أنّ البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات وتصرُّفهم في أجناس الفصاحات، وهلَّا قلتم: إنَّ من قدر على جميع هذه الوجوه بوجه من هذه الطرق الغريبة كان على مثل نظم القرآن قادرًا، وإنما يصرفه عنه ضرب من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضرب من المنع، أو تقصر دواعيه إليه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده الله تعالى من الدلالة، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة؛ لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلهما، وإذا قدر على ذلك على ضمّ الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة حتى يتكامل قدر الآية والسورة.
ونرى من هذا أنَّ القائلين بهذا القول يشككون في مرتبة القرآن وكونه من عند الله تعالى من غير أن يقدموا دليلًا، بل إنَّ القصد الذي يبدو من لحن القول والدعوى هو التشكيك المجرَّد في علوِّ البلاغة القرآنية، ومن وراء ذلك التشكيك ما يريدون من توهين ثم دعاوي بأنه من صنع محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا يسير الخط من الاحتمالات تنافي الواقع إلى توهين لأمر القرآن، إلى ادِّعاء أنه ليس من عند الله.
35 - وإن القول بالصرفة نبت أول ما نبت من رواق الفلسفة الكلامية، قاله شيخ من شويخهم، وهو إبراهيم بن يسار الشهير بالنظَّام، المتوفَّى سنة 224هـ، فهو أول من جاهر به، وأعلنه ودعا إليه، ولاحى عنه كأنَّه مسألة من مسائل علم الكلام، ونقول: إنَّه أوَّل من جهر به ولا نقول أنه أول من فكر فيه، أو أول من ابتدأ القول به؛ لأنَّ الأفكار لا يعرف ابتداؤعها، وهي تتكون في خلاياها، بل لا تعرف إلا بعد أن تظهر، ويجاهر بها.
جاهر بها، وكان ذا فصح وبيان وحجة وبرهان، وإن لم يكن مستقيم الفكر، بل إنه يظن الظن فيحسبه يقينًا، ثم يبني عليه ويقايس، ويصحح القياس والتنظير بين الأشياء، بينما الأصل ذاته يحتاج إلى قياس صحيح.
ولقد نقده تلميذه الجاحظ المتوفّى سنة 255هـ، الذي كان معجبًا بشخصه، غير آخذ برأيه، وقال فيه ذاكرًا عيبه:
إنما عيبه الذي لا يفارقه سوء ظنه وجودة قياسه على العارف والخاطر، والسابق الذي لا يوثق بمثله، فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه، كان أمره على الخلاف، ولكنه كان يظن الظن ثم يقيس عليه، وينسى أن بدء أمره كان ظنًّا، فإذا أتقن ذلك وأيقن جزم عليه، وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر في صحة معناه، ولكنه كان لا يقول سمعت ولا رأيت، وكأن كلامه خرج مخرج الشهادة القاطعة، فلم يشك السامع أنه إنما حكاه عن سماع قد امتحنه، أو عن معاينة قد بهرته.
لم يوافق التلميذ أستاذه، لم يوافق الجاحظ شيخ الكتاب المسلمين وأكبر ناقد بين الناقدين شيخه، وإذا كان إبراهيم بن يسار قد اشتهر بالبيان وسرعة الجواب ولسن القول، فقد اشتهر الجاحظ بأنه ذواق الكلام وصيرفي البيان، فإن خالف من يتسرع في الخبر، ويبني عليه، فهي مخالفة الخبير العارف بتصريف القول، وأفانين التعبير والتفكير.
ولم يكن رد الجاحظ على شيخه رد المجادل المحاور، ولكنه كان بالعمل، فقد كان أول من كتب في إعجاز القرآن من الناحية البيانية؛ ليكون الرد على الصرفة ببيان الإعجاز الذاتي.
ولقد أشار إلى رد الجاحظ الذين كتبوا في الإعجاز ومنهم الباقلاني، وممن نسب إليه القول بالصرفة الشريف المرتضى من الشيعة، وفسر الصرفة بأن الله تعالى سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في معارضة القرآن والإتيان بمثله. ومؤدى كلامه أنهم أوتوا المقدرة على المعارضة بما كانوا عليه من بيان وبلاغة وفصاحة، فهم قادرون على النظم والعبارات، ولكن ليست عندهم المقدرة بسبب أنَّهم لم يعطوا العلم الذي يستطيعون به محاكاة القرآن في معناه.
وإنَّ هذا القول ينافيه أن الله سبحانه وتعالى - طالب بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وأعفاهم من أن يكون كلامهم مشتملًا على ما في القرآن من علم، واقتصر على التحدي بالنظم والعبارة واللفظ.
فهذا القول نوع من الصرفة، ونفي للإعجاز الذاتي، ويختلف مع ما اشتمل عليه القرآن.
وممن قالوا بالصرفة الفقيه البليغ العنيف المتشدد ابن حزم الأندلسي، فقد قال في كتاب الفصل في سبب الإعجاز: لم يقل أحد أنَّ كلام غير الله تعالى معجز، لكن لمَّا قاله الله تعالى، وجعله كلامًا له، أصاره معجزًا، ومنع من مماثلته ثم قال: وهذا برهان كان لا يحتاج إلى غيره.
وإن ذلك الكلام يبدو بادئ الرأي غريبًا من ابن حزم، ولكن المتأمل فيه يجده سائر على مذهبه في نفي الرأي، والحكم بظاهر القول من غير تعليل، فالاتجاه إلى تعليل الإعجاز بأنَّ السبب فيه بلاغته التي علت عن طاقة العرب، والتي جعلتهم يخرون صاغرين بين يديه من غير مراء ولا جدال يُعَدّ تعليلًا، وهو من باب الرأي الذي ينفيه، والتعليل الذي يجافيه، فلا بُدَّ أن يبحث عن سبب غير ما ذكر الله تعالى.
36 - وإننا نرى أنه بعد كلام النظام صارت فكرة الإعجاز بالصرفة مجال اختلاف بين العلماء ما بين مقرر لها ومستنكر، وقد آن لنا أن نبين بطلان هذه الفكرة من أساسها، وإنَّ دلائل البطلان قائمة ثابتة مأخوذة من الوقائع التاريخية والموازنات الحقيقية الثابتة.
(أ) منها: ما ذكرنا من قبل أنَّ العرب عندما تلقَّوا القرآن راعهم بيانه، وأثار إعجابهم أسلوبه وعباراته، وقالوا: ما رأينا مثله شعرًا ولا نثرًا، فكان العجز لذاته، لا لشيء خارج عنه، وما لنا نفترض ما لم يقولوا وما لم يفعلوا، وما لم يقدروا، إلّا أن يكون ذلك تمويهًا وإنكارًا للواقع المستقر، بفرض وهمي.
(ب) وأيضًا فإنه لو كان العجز لأمر خارجي لا لأمر ذاتي فيه، بأن تكون عندهم القدرة على أن يأتوا بمثله ولكن صرفوا، فإنَّ ذلك يقتضي أن يثبت أولًا أنهم قادرون على مثله، وهم أولًا قد نفوا ذلك عن قدرتهم، وليس لنا أن نفرض لهم قدرة قد نفوها عن أنفسهم، لو كانوا قادرين لكان من كلامهم قبل نزول القرآن عليهم ما يكون متماثلًا في نسقه ونسجه، وله مثل رنينه وصوره البيانية في شعر أو نثر، ولكن المتتبع للمأثورات العربية في الجاهلية والإسلام لا يجد فيها ما يقارب القرآن في ألفاظه أو معانيه أو صورة البيانية.
ولذا لجأ الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن) إلى الموازنة بين القرآن وبين المعروف من أبلغ الكلام في الجاهلية، ويقول في ذلك: ولو كانوا صرفوا على ما ادَّعاه لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عمَّا كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة، وحسن النظم، وعجيب التأليف؛ لأنَّهم لم يتحدوا به، ولم تلزمهم حجته، فإذا لم يوجد في كلام قبله مثله علم أن ما ادَّعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان.
(ج) وإننا لو قلنا: إنَّ الذي منع العرب من الإتيان بمثله هو الصرفة ما كان القرآن هو المعجز، وإنما يكون العجز منهم، ولم يكونوا عاجزين، وإنما يكونون قد أعجزهم الله، ولم يعجزهم القرآن ذاته، وقد كان القرآن هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، والقول بالصرفة ينفي عنه خواص الإعجاز.
وإنَّ معجزات النبيين السابقين ما كان في طاقة الناس أن يأتوا بمثلها في ذاتها، ولم يكن بصرف الناس أن يأتوا بمثلها، فمعجزة العصا، وتسع الآيات التي لموسى عليه السلام ما كان العجز من الناس بالصرف، ولكن بالعجز الحقيقي، فلماذا لا تكون معجزة النبي صلى الله عليه وسلم كسائر المعجزات، وهي أجَلّ وأعظم.
(د) وإنَّ الله تعالى قد وصف القرآن بأوصاف ذاتية تجعله في منزلة لا تصل إليها معجزات أخرى، فكانت هذه توجب أن يكون إعجازه ذاتيًّا، ولقد قال تعالت كلماته: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31].
ويقول جلَّ من قائل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].
وإذا كان القرآن بهذه الأوصاف التي وصفه بها منزله سبحانه وتعالى، أفيقال بعد ذلك أنَّ الناس يستطيعون أن يأتوا بمثله؟ اللهمَّ إن ذلك بهتان عظيم.
(هـ) وإن مثل الذين يقولون: إنَّ إعجاز القرآن بالصرفة، كمثل الذين قالوا: إن القرآن سحر يؤثر.
وقد أثبت ذلك الرافعي في كتابه إعجاز القرآن، فقال: وعلى الجملة فإن القول بالصرفة لا يختلف عن قول العرب: إن هذا إلا سحر يؤثر، وهذا زعم رده الله تعالى على أهله، وأكذبهم فيه، وجعل القول فيها ضربًا من العمى {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15].
وإنَّ التشابه بين القول بأنه سحر أنَّ الامتناع عن المماثلة في كليهما من خارج الشيء لا من ذاته، فالقول بالصرفة يفيد أنَّ العرب لم يكونوا عاجزين، ولكن حيل بينهم وبين العمل على المماثلة، وكذلك الأمر في السحر يشدهم، حتى يعجزوا.
ولقد سبق أنْ علَّلَ المشركون عجزهم بعد التفكير والتقدير بأنه سحر يؤثر.
قال - تعالت كلماته - في شأن الوليد بن المغيرة: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 11 - 25].
هذا ما وصل إليه الوليد بن المغيرة بعد أن قدَّر ودبَّر في ملأ من قومه، يجيء كاتب متفلسف فيأتي بهذا القول من غير تقدير ولا تدبير.
37 - ومهما يكن من بطلان هذه الفكرة، فقد أدَّت إلى إنشاء علوم البلاغة في ظل القرآن، فاتَّجَه الكاتبون إلى بيان أسرار البلاغة في هذا الكتاب المبين، المنزَّل من عند الله الحكيم، قرآنًا عربيًّا، فكان هذا الباطل سببًا في خير كثير، وكما يقول المثل السائر (ربَّ ضارة نافعة)، فقد تولَّد عن هذا الباطل دفاع حكيم، ولدت منه علوم البلاغة العربية، وكما تولَّد عن الخطأ في تلاوة آية (علم النحو) تولدت علوم البلاغة العربية. وإن أكثر ما كتب الأولون في البلاغة والفصاحة كان في ظل القرآن، ومحاولة لبيان إعجازه.
وإنَّ أول ما كتب في إعجاز القرآن من ناحية البيان كان في الوقت الذي جاء فيه القول بالصرفة، بين نفي وإثبات كما أشرنا، وأول من عرف أنه تصدى للكلام في الإعجاز في نظم القرآن هو الجاحظ تلميذ النظَّام، الذي أنكر عليه قوله، وعابه في منهاجه الفكري من أنَّه يظن الظن، ثم يجعله أصلًا يجري عليه القياس مصححًا لقياسه.
بالمنطق، والعيب في أصل القول الذي بنى عليه، لا في الأقيسة التي أجرى بها مشابهاته، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
وقد كتب في ذلك كتابه النظم، وقد عابه الباقلاني؛ ليدفع بذلك التسليم له بالسبق، ولأنه معتزلي، ولكن الجاحظ في كتابات له كثيرة غير كتابه النظم، كان يذكر مواضع من إعجاز القرآن في آيات يتعرّض للقول فيها، ليبيِّن مقامها من البيان، فهو في كتاب (الحيوان) يذكر أنه جمع آيات من القرآن يعرف مقامها في البيان، فهو يقول: ولي كتاب جمعت فيه آيات من القرآن ليعرف بها ما بين الإيجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول والاستعارات، فإذا قرأتها رأيت فضلها في الإيجاز والجمع للمعاني الكثيرة، والألفاظ القليلة، فمنها قوله تعالى حين وصف خمر أهل الجنة {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُون} [الواقعة: 19] وهاتان الكلمتان جمعتا جميع عيوب خمر أهل المدينة، وقوله - عز وجل - حين ذكر فاكهة أهل الجنة: {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَة} [الواقعة: 33]، جمع بهاتين الكلمتنين جميع تلك المعاني.
وهذا الكتاب الذي أشار إليه لم يكشف في التراث الإسلامي، ولكنه يدل على أن الجاحظ كان يتعرَّض لأسرار الإعجاز، كلما لمح بريق الإعجاز في آياته.
ولكن التعصُّب المذهبي يستهين بكلام الجاحظ في إعجاز القرآن، بل إنه يتحامل عليه في كتابته كلها، فيقول في ذلك الباقلاني الأشعري عن الجاحظ أحد شيوخ المعتزلة: كذلك يزعم زاعمون أنَّ كلام الجاحظ من السمت الذي لا يؤخذ فيه، والباب الذي لا يذهب عنه، وأنت تجد قومًا يرون كلامه قريبًا، ومنهاجه معيبًا، ونطاق قوله ضيقًا، حتى يستعين بكلام غيره، ويفزع إلى ما يوشح به كلامه، من بيت سائر أو مثل نادر، وحكمة ممهدة منقولة، وقصة عجيبة مأثورة، وأما كلامه في أثناء ذلك فسطور قليلة وألفاظ يسيرة. فإذا أردت أن تحقق ذلك فانظر في كتبه في نظم القرآن، وفي الردِّ على النصارى، وفي خبر الواحد، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى.
ولقد جاء من بعد نظم القرآن للجاحظ الذي كان ردًّا عمليًّا على كلام النظَّام الذي أدخله من الهند، وهو مذهب الصرفة، جاء بعده أول كلام واجه الصرفة في إعجاز القرآن، وهو كتاب (إعجاز القرآن) لأبي عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتوفَّى سنة 306 هجرية، أي: بعد موت الجاحظ بنحو ستين سنة، وهو صورة المجاوبة التي كانت دفعًا لمذهب الصرفة الذي بلبل الأفكار، وكان بين ممانعة من الأكثرين، ومجاوبة من القلة، حتى صارت نادرة، وحتى طواه التاريخ وهو في هذا قد طرق باب البلاغة طرقًا قويًّا، وأصل الأصول المشتقة من كلام العرب، ونظمها وطبقها على القرآن، وثبت في التطبيق أنه أعلاها.
وهذا الكتاب يعدُّ أصلًا بنى عليه، فقد شرحه عبد القاهر الجرجاني المتوفَّى سنة 471هـ شرحًا مطولًا، وأودع ذلك الشرح كتابًا سمَّاه (المعتضد)، وله شرح آخر أصغر منه.
وهكذا كل كاتب يقيم بناء يكمله من يجيء بعده، فالواسطي أكمل البناء الذي وضعه الجاحظ، أو بنى عليه، وترك لغيره أن يكمل البناء.
وجاء عبد القاهر الجرجاني فبنى على ما وضع الواسطي، وكان كتابه دلائل الإعجاز قد أوفى على ما وضع الجاحظ والواسطي.
وفي الزمن الذي سار فيه الجاحظ والواسطي من بعده، والجرجاني من بعدهما، وانتهى إلى تلك الثورة المثرية في باب الإعجاز البلاغي للقرآن، كانت هناك محاولة أخرى، في طريق مواز لذلك الطريق.
فقد وضع أبو عيسى الروماني المتوفَّى في سنة 382هـ كتابه في الإعجاز، فوضع بناء ثالثًا، غير بناء الجاحظ والواسطي، ثم جاء الباقلاني المتوفَّى سنة 403هـ فوضع كتابه (إعجاز القرآن)، ويلاحظ أنَّ تاريخه سابق على (دلائل الإعجاز)، وأحسب أنَّ من الحق علينا أن نقول: إنَّ (دلائل الإعجاز) لم يبنَ على الوساطي فقط، بل إنَّه أخذ من كل الينابيع التي سبقته، وإنَّ القارئ له يجد فيه كل مزايا من سبقه، وفيه زيادة جديرة بالأخذ، بل أساس لعلوم البلاغة كلها مستقاة من القرآن، وموضِّحة لأوجه البلاغة فيه أولًا، وعلوِّه على كل كلام ثانيًا، ثم فيه وضع مقاييس ضابطة لكل كلام بليغ ثالثًا.
فكتاب الباقلاني قد تعرَّض للإعجاز بالمواجهة ابتداءً، ولم يسبق علم البلاغة ابتداء، ثم يتعرَّض للإعجاز انتهاءً، ولكنَّه جعل الأصل في الكلام الإعجاز، ثم البلاغة تابعة له تبعية الدليل للمدلول، والبرهان للدعوى، والمقدمة للنتيجة.
ويلاحظ على هذا الكتاب أنَّه لم يشر إلى ما سبقه إلّا الجاحظ، فقد أشار إليه إشارة لا تكريم فيها، ولكن فيها استهجان واستصغار لما كتبه، ولم يشر أي إشارة إلى ما كتبه الواسطي، وما كتبه الرماني، وقد سبقاه، وكان ثانيهما على مقربة من زمانه، مع أنه أخذ من الرماني قطعًا ولم يذكر اسمه.
ومهما يكن الأمر بالنسبة لمن سبقوه في القول، وإهمال ذكرهم، فهو الكتاب الذي اختصَّ بأن يكون في الإعجاز ابتداءً كما أشرنا، وقد وفَّى فيه بأمهات المسائل.
ويقول فيه الرافعي المتوفَّى سنة 1937م في كتابه إعجاز القرآن: على أن كتاب الباقلاني، وإن كان فيه الجيد الكثير، وكان الرجل قد هذَّبه وصفاه، وتصنَّع له، إلّا أنه لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره، ولم يتحاش وجهًا من التأفف لم يرضه من سواه، وخرج كتابه كما قال هو في كتاب الجاحظ، لم يكشف عمَّا يلتبس في أكثر من هذا. وقد حشد إليه أمثله من كل قبيل من النظم والنثر، ذهبت بأكثره، وغمرت جملته، وعدها في محاسنه، وهي من عيوبه، ثم يقول: وكان الباقلاني - رحمه الله وأثابه - واسع الحيلة في العبارة، مبسوط اللسان إلى مدى بعيد، يذهب في ذلك مذهب الجاحظ، ومذهب مقلده، على بعد وتمكن، وحسن تصرف، فجاء كتابه وكأنه في غير ما وضِعَ له؛ لما فيه من الإغراق في الحشد، والمبالغة في الاستعانة؛ والاستراحة إلى النقل.
والرافعي بهذا ينقد الباقلاني، ويصفه بمثل ما وصف هو به الجاحظ.
ومن حق العلم على العالم ألَّا ينتقص غيره، وأن يعرف اللاحق أنه متمم لما بدأ السابق؛ غير ناكر لفضل، ولا باخس لحظ.
وهكذا في عصر الباقلاني ومن بعده، حتى كان آخرها تأليفًا من حيث القيمة العلمية والدرجة البيانية كتاب (إعجاز القرآن) للرافعي - رحمه الله تعالى وأثابه وجزاه عن الإسلام خيرًا.